قصة أي شيء هي قصة كل شيء
قصة كل شيء هي قصة أي إنسان
قصة أي إنسان هي قصة كل إنسان
إذن ..
قصة أي شيء هي قصة كل إنسان
في إحدى غابات شمال أمريكا, وبعد ركود عاصفة ثلجية, وحين كان الهدوء والزمهرير يعم الأرجاء, كان هناك وشق جميل متلملم مرقط تحت إحدى الأشجار, وكان الجوع قد بلغ منه مبلغا شديدا, ولم تكن طبيعة هذا الوشق – كأي وشق آخر – تساعده أو تفرض عليه كنز الطعام, وبغض النظر عن السبب الرئيس لكن كانت عزة نفسه أيضا تلعب دورا كبيراً في هذا التصرف؛ لأنه يشكّل اعترافا ضمنيا بأنه قد لا يستطيع الصيد في وقت من الأوقات, وهذه إهانة لا يتقبلها هذا الوشق, فكرامته تجبره على صرف النظر عن قرار قد يبدو صائبا لغيره.
كنت أقول أن الوشق كان جائعا؛ فهو لم يأكل شيئا منذ وجبة أمس, وليس السبب نقصا في قدرته على الاصطياد, بقدر أنه لم يجد شيئا يصطاده, فحظه اليوم كان عاثرا, ورغم كل الأنفة التي جعلته لا يكنز الطعام فقد جعله سوء طالعه يعيد التفكير في تلك المبادئ, وهو حظ عاثر أن يكون حظك العاثر سبب وجيها – بالنسبة لك – في إعادة التفكير في مبادئك, على كل حال, في غمرة جوع الوشق الشديد بدا له أرنب من بعيد, أرنب يبدو جيداً كوجبة غداء, نفض الوشق كل أفكاره حول كنز الطعام وانطلق تجاه الأرنب بسرعة, انتبه الأرنب للوشق القادم بتوحش من بعيد, الذي في غمرة فرحته بالطريدة نسي كل بروتوكولات الصيد من اختباء, وتمهل, واقتراب, ثم انتظار للحظة الحاسمة, ثم الانقضاض.
فر الأرنب مسرعاً, وبداء يصنع خطوطاً متعرجة أثناء الجري حتى يربك الوشق, ظل الوشق يجري خلف الأرنب الذي ظل محافظا على المسافة بينهما, ثم ما لبث أن صار بعيداً جداً عن الوشق الذي يأس من اللحاق به. زاد هم الوشق هما, فإضافة على جوعه الشديد, وتسرّعه, وإخفاقه في الصيد, فقد كلفته هذه المطاردة ما تبقى له من طاقة من وجبة أمس, وأصبح الصيد أكثر صعوبة الآن.
لم يكن الوشق ليشكك في قدرته على الصيد ولكنه لم يستطع صيد هذا الأرنب, ربما استعجل قليلا ولم يتأنى, ولكن فرحته العارمة شلت تفكيره, هل يلوم فرحته؟, لا بد أنه حظه العاثر في البداية الذي جعله يبلغ هذا المبلغ من الفرحة, لكن لماذا تعثر حظه؟, الآن هو يشعر بالجوع الشديد, ويريد أن يأكل بأي طريقه كانت, لقد دفعته عزته ومبادئه إلى عدم كنز الطعام ولم يستفد شيئا, للأسف لم يعد هناك متسع للمبادئ, سوف يأكل, وماذا سوف يأكل ! .. سوف يبحث عن جيفة. عندما نتمسك بمبادئنا نتعثر, وعندما نتنازل عنها تظهر النتائج, إنه الحظ العاثر التام في صورتين مختلفتين, نفس الحظ العاثر الذي يخفي عنا الطريدة عند جوعنا وعزتنا, هو نفسه الحظ العاثر الذي يظهر لنا جيفة عند جوعنا وانكسارنا.
لمح الوشق جيفة حمار وحشي من بعيد واتجه لها, لا يدري كيف سوف يكون طعمها, فهو لم يذق طعم الجيفة من قبل, لكنه متأكد أن طعمها سوف يكون أطيب من طعم الجوع, اقترب منها حتى وقف أمامها, ولكن كان هناك مفاجأة غير سارة بانتظاره, لم تكن فقط جيفة, بل كانت ما تبقى من ما أكله الضباع من جيفة, كانت فضلتهم, وما لم يكن يعلمه الوشق؛ أنه عندما نتنازل باختيار منا في لحظة ما, فإننا سوف نضطر إلى أن نتنازل أكثر فيما بعد ليكون للتنازل الأول معنى, كان الوشق ينظر للجيفة – أو ما تبقى منها – بذل ومهانة, فهو الذي كانت تنتظره الضباع لينتهي من فريسته سوف يأكل الآن ما أبقت له الضباع, لكنه الجوع الذي دفعه لهذا, فور أن قرر البدء بالأكل سمع صوتا مجلجلاً خلفه, التفت وإذا بدب كبير ضخم خلفه ينوي الاستفراد بالجيفة, الوشق قوي, ولكنه أمام دب ضخم, سوف تكون المواجهة صعبه, وقد تكلفه الكثير, بالإضافة إلى جوعه الذي أنهك جسده, هناك تنازله الذي أنهك روحه, لم يعد قويا كما بالأمس القريب, إنه الضعف .. لذلك فضل الإنسحاب.
لا نتنازل عن مبادئنا لأننا ضعفاء؛ ولكننا ضعفاء لأننا تنازلنا عن مبادئنا.
سار الوشق مبتعدا عن الدب والجيفة, كان يشعر بالذل إلى درجة أنه نسي جوعه, لم يأكل من الجيفة, ولكنه كاد أن يأكل, من الطبيعي أن نشعر بالمهانة بسبب التنازل, ولكن هل يفترض أن نشعر بنفس الشعور إذا كدنا أن نتنازل؟, وهل كان الدب نقمة للوشق؟, بحيث حرمه الطعام, أم كان نعمة؟, بحيث منعه من أكل بقايا جيفه, نعمه أم نقمه؟, جهلنا يصل بنا حتى إلى عدم قدرتنا على إجابة هذا السؤال.
ابتعد الوشق كثيرا, وفي خلال سيره وجد مصيدة فيها طعم, كان الوشق ذكياً بحيث تعرّف المصيدة فورا, فهو ليس غبيا كغالب الحيوانات, لكن معرفته أوقعته في حيره, هل ينقض على الطعم ويسقط في المصيدة؟, أم يصبر على جوعه؟, الغريب أن حتى ذكائنا ومعرفتنا تعود لتطرح نفس السؤال, هل هو – ذكائنا ومعرفتنا – نعمه أم نقمه؟, كل الأغبياء والجهلة والأذكياء والعارفون في هذا العالم يجترحون الأخطاء, لكن – ويا للغرابة ! – الأغبياء والجهلة لا يحتارون؛ فهم يسيرون على كف القدر, بينما البقية هم من يعيش الصراع, هم من يعيش الحيرة, وكأن الحيرة التي دائما ما نصف بها شخص غبي, أصبحت الوجه الأخر للذكاء, وكأن الفاصل بين الذكاء والغباء, وبين الجهل والمعرفة, أصبح هشاً .. أن تعرف يعني أن تحتار .. أن لا تعرف يعني أن تحتار أيضا .. وهنا يطل وجه الجنون من خلال النافذة, هل أصبحنا مجانين كي نرى أن الجهل والمعرفة وجهين لعمله واحده؟, هل المنطق الذي استخدمناه في البداية صحيح أصلاً؟, وهنا يتطور السؤال, من يضمن أن بديهياتنا و مسلماتنا – التي لا نشكك فيها - سليمة؟.
قلنا إن الوشق كان جائعا وكان يقف أمام مصيدة, وقلنا أن شعوره بالذل غطى شعوره بالجوع, أما الآن فشعوره بالحيرة قد خالط شعوره بالذل, هو ذكي – كأي وشق أخر – فقد أدرك اليوم أننا إذا تنازلنا قليلا فإننا سوف نتنازل أكثر, وأننا سوف نستمر في التنازل حتى نبدأ في التفكير في القفز في المصيدة, لقد أدرك أن انسحابه من مواجهة الدب سببه الضعف الذي أصاب روحه وليس الضعف الذي داهم جسده, عرف أن المبادئ عرضة للحظ العاثر, وأن الحظ العاثر مدعاة للعجلة, وأن العجلة سبب الخسارة, عرف أن الحيرة هي ضريبة التفكير والمعرفة, عرف أنه في لحظة ما سوف تصل حيرته للجنون, وكان هذا كله استرسلاً لجوعه, عاد ليفكر هل كان حظه العاثر في الصباح نعمة أم نقمة؟ , لقد اكتشف الكثير فقط من خلال جوعه, الكل يجوع , لكن من يتعلم من الجوع؟!, لا بد أن كل هذا نعمة في بطن نقمة, منحة تلثمت بمحنة, هل تلاحظ كيف أن هذه الكلمات – نعمه , نقمة , منحه , محنه - متشابهة؟ , لا بد أنها إشارة لتشابه في حقيقتها, خلص من حيرته أمام المصيدة إلى أنه اليوم مرّغ نفسه بما فيه الكفاية في أوحال حماقاته وتنازلاته, وأنه حان الوقت ليرفع رأسه عاليا, لقد أخطئ أو كاد أن يخطئ, لكن لا يعني هذا وجوب استرساله في الخطاء, سوف يعود وشقا كما كان, عزيزا قويا لا يأكل الجيف ولا يكنز الطعام, لذلك قرر أن يتجاوز المصيدة ويبحث عن طريدة, فربما حان وقت الفرج, أو سوف يبتعد حتى يموت في مكان يتحلل فيه تماما, قبل أن تنهش جثته الضباع.